
اترك الحبل على الغارب
6/14/2024
قيل: لاعب ابنك سبعًا، وأدبه سبعًا، وصاحبه سبعًا، ثم اترك الحبل على الغارب.
يرى علماء الإدراك المعرفي، أن الطفل في السنتين الأولى من عمره، يرى الأمور كلها من منظوره وحده، لذلك نلاحظ عند اللعب معه إذا أخفينا لعبة عنه، ظن أنها اختفت، وإذا أغمض عينيه، يظن أنك لا تراه، ثم تتفتح مداركه شيئا فشيء، وتنمو قدراته اللغوية، ويتعلم عبر اللعب، وينمو الخيال عنده، ويظهر ذلك في لعبه الألعاب الخيالية التي يتظاهر أو يمثل من خلالها، إلا أن القدرة على التحليل المنطقي لا تتفتح عنده غالبُا إلا بعد السابعة من العمر بحسب نظرية بيجيه.
ويرى علماء التربية أن محاولة تعليم الطفل دون السابعة أن تصرفه قد أضر بغيره، من خلال أن يطلب منه أن يضع نفسه موضع شخص آخر، غير مجدية، فهو لا يفهم مثل هذا المنطق، وأنانيته في ذلك العمر فطرية، لكن يقوم الوالدان بتوجيهه للتعامل مع الآخرين بلطف بطرق أخرى، أهمها بيئة الطفل، فهذه المرحلة يكتسب الطفل الكثير بالمحاكاة، فيحاكي تعامل من حوله مع بعضهم البعض، وتعاملهم معه، فيتعلم مثلا اللطف والاحترام من خلال محاكاة اللطف والاحترام في تعامل الوالدين لبعضهما البعض، وتعاملهما معه، كذلك يتعلم الطفل رعاية مشاعر الآخرين من خلال تحميله مسؤليات بسيطة تشعره بأهمية الاهتمام بالآخر، فيخرج عن أنانيته الفطرية دون أن يتأذى في نفسه أو يُحمل ما لا يطيقه.
بعد السابعة يأتي التوجيه والتأديب بشكل يتسق مع قدرات الطفل المنطقية، فقد بدأت آلة المنطق عنده في العمل، وينهض الوالدان بمسؤولية تنمية وتوجيه هذه الآلة الفطرية لتعمل بشكل صحيح، وبمنطق صائب، وذلك من خلال حالهم قبل مقالهم، كالثبات على القيم المغروسة، والصدق والنقاش المفتوح، والإجابة على أسئلة الطفل بصدق وشفافية بما يتناسب مع فهمه.
ثم بعد الرابعة عشر، بحسب المقولة يسعى المربي لمصاحبة ولده، وهذا في عصرنا هو سن المراهقة عند الصبي والبنت، وسن الانطلاق والميل إلى علاقات الصداقة خارج نطاق الأسرة، فنجد أن الولد، ذكرا كان أو أنثى، في هذه المرحلة ينفر من التأديب والمحاسبة وما يراه التحكم في حياته، ويرغب في الانطلاق، أي يشب عن الطوق كما يقال.
القرب من الأبناء في هذه المرحلة مهم للغاية، وهناك فرق بين التقرب منهم لمحاكمتهم والتلصص عليهم، وبين التقرب منهم لفهمهم، فهم بحاجة التوجيه اللطيف في صورة تتسق مع التفهم لطبيعة مرحلة العمر، وتنأى عن استخدام السلطة الأبوية إلا في أضيق الحدود، كوضع قواعد للتصرفات ومواعيد للخروج ونحو ذلك.
ومتى أحسن الآباء غرس القيم والأخلاق في مرحلة الطفولة وخاصة بين السابعة والرابعة عشر، ثم استثمروا هذا الغرس في مرحلة المراهقة، واعتنوا بسقياه، من خلال الثبات على المبادىء والقيم، والصداقة مع الأبناء، صارت صلتهم بالأبناء صمام أمان، فيشعر الولد بأنه في حال وقوعه في مشكلة ما، يستطيع أن يلجأ إلى والده، فتكون ثمرة العلاقة الصحية بين الآباء والأبناء، عصمة الأبناء عند الزلل من السقوط في الهاوية.
ومن جميل ما توصلت إليه دراسات علم النفس أن اجتماع الأسرة بشكل يومي على مائدة الطعام، في جو ودي وحميمي، له أثر في حفظ الأولاد من الانحرافات الأخلاقية، ومن الوقوع في الإدمان وما شابه، حيث يتشاركون يومياتهم، ويلحظ الآباء ما يطرأ على الأبناء من تطورات وتغيرات أولا بأول، وقد كان هذا في الماضي من البديهيات في العلاقات الأسرية، إلا أننا مؤخرا بدأنا ننأى عن مثل هذه الصلة، ونغفل أهميتها، لانشغال الآباء بعيدا، وعزلة كل فرد في الأسرة وانفراده بنفسه، حتى لو اجتمعت الأسرة، فكل منهم منشغل بجهاز في يده، فتشترك الأجساد في المكان وتفترق العقول والأرواح كل في جهة، ويترتب على انصراف أفراد الأسرة عن بعضهم اغتراب في البيت الواحد، ويضعف التفاهم والتواصل، فيلجأ الأبناء للنت ويفضون ما في نفوسهم لمجهولين، وهذا حديث آخر له شجونه.
ثم إن العلاقة التي تزرع الرهبة والخوف في قلوب الأبناء تجاه الوالدين، تحدث جفوة ونفور وتباعد، خاصة في فترة المراهقة، التي هي أحوج ما يكون فيها الولد لملاذ آمن يلجأ إليه عند الخوف أو التردد، أو الضيق والتوتر.
ومرحلة ما بين 14-21 سنة هي مرحلة حرجة، مرحلة التعرف على الذات، والرغبة في استمالة الأصدقاء، والرغبة في الانخراط والاندماج مع المجتمع والعصر، مرحلة حساسة، شدة شعور الإنسان بذاته مع قوة انفتاحه على المجتمع مع قلة خبرته في الحياة وفهمه للعالم حوله، تجعله يشعر بحيرة وتوتر وقلق، ووجود الصديق العاقل الراسخ، الذي يشعر معه بالأمان لا بالرهبة، بالاطمئنان لا بالتسلط، بالقدرة على الانفتاح دون خشية الإتهام أو الإدانة، هو أكثر ما يحتاجه في هذه المرحلة.
بعد الثامنة عشر، تكتمل قدرات الإدراك المعرفي عند الإنسان ومعها قدرته على تقدير عواقب الأمور، فاعتمدته كثير من الأمم كسن البلوغ القانوني الذي معه يصبح الإنسان مسؤولًا وحده عن سلوكه وتحمل عواقب تصرفاته قانونيًا.
وبحسب المقولة أعلاه، فمن سن الواحد والعشرين يترك الوالد الحبل على غاربه، ولا يعني ذلك التخلي عن الولد، ولكن المقصود تحميله مسؤولية نفسه، وفسح المجال أمامه ليخوض غمار الحياة، فهو عمر ما عاد يصلح معه تأديب ولا تربية، ولا يجدي تسلط ولا قهر، بل هو العمر الذي يتعلم فيه من تجاربه في الحياة، وإن عقل يبني على تجارب غيره، وله أن يبقي المجال مفتوحا للاستماع لنصح الأكبر سنا وأكثر خبرة، لكن ليس للأخير حمله على ذلك.
الإشكال في مجتمعاتنا يكمن في إهمال التربية في وقتها، والتعامل مع من تجاوز سن البلوغ كما لو كان طفلا، ومحاولة تقييد من شب عن الطوق، والتحكم فيمن ينبغي أن يحكم أمر نفسه، ومحاولة إملاء إرادة الوالد بطمس إرادة الولد، وتجاهل اختلافات العصر وتميز الطبع والخيارات الشخصية، والتطرف في الشدة واللين.
وقد يستخدم الوالدين لفرض الرأي على الأبناء الابتزاز العاطفي، أو حتى الديني، فيكون التلويح بعقوبة عقوق الوالدين وسيلة لإجبار الأبناء للرضوخ في قرارات تتعلق بحياتهم ومصيرهم، تبعاتها قد تمتد فترة حياتهم، وكثيرًا ما يجد الأبناء أنفسهم بين خيارين أحلاهما مر، إما أن يتحمل حياة لا يستسيغها ويشقى بها إرضاء لوالديه، أو يختار لنفسه ما يرضيها فيعرض نفسه لغضب الوالدين أو أحدهما، فيحصل فتور وإعراض في العلاقة، وربما يرى أن مصيره النار كونه، بحسب ما قيل له، عاقا فلا أمل يرجى له في الآخرة.
وأقبح ما يفعله الأبوان مع الأبناء، هو أن يكون هناك إهمال في فترة حاجة الأبناء إلى الحنان والعطف والرعاية، فيعرض الوالد عن ولده، ويقدم ما سواه عليه، فإذا شب الولد وبدأ الإعتماد على نفسه، واستغنى، يلتفت إليه الوالد الذي يحتاج الآن سندا وعضدا، فيقربه ثم يبدأ في الإملاء والتحكم في كل حياته، ويبتزه عاطفيا أو دينيا ليرضخ له في كل شؤونه، فهو الآن يظن أنه أعلم الناس بحاجة ولده، ومصلحته، بعد أن غفل عنه في وقت ما كان يقدر فيه على القيام بأمر نفسه، وتركه يستجدي عطفه ولا يلتفت إليه، وقد ينتج عن ذلك أحد أمرين، إما أن يعامل الولد الوالد بالمثل، فيتخلى عنه في كبره كما تخلى ذاك عنه في صغره، ويرفض أن يكون له أدنى رأي في حياته، أو أن يصيب إقبال الوالد على الولد فراغا ونقصا أحدثه الغياب الأول، فلا يسع الولد إلا أن يستجيب لوالده تعلقا بالاهتمام الذي وجده فجأة، فيترك مراده لمراد والده خشية إعراض والده مرة أخرى، ورغبة في استبقاء حلاوة الصلة به وما يغدقه عليه من عطف افتقده منذ زمن، وكلا الحالتين تصفان علاقة سقيمة للوالدين أو أحدهما مع الأولاد، فما بني على أساس مريض لا يثمر علاقة صحية.
وخلاصة الأمر، من حق كل إنسان عاقل بالغ أن يخوض تجربته في الحياة، مع تحمل مسؤولية قراراته، وعواقب اختياراته، والاجتهاد ما استطاع في الإصابة، ولا بأس في أن يخطىء ويكرر المحاولة، حتى يتعلم وينمو، ويحتاج الإنسان في مرحلة الشباب من والديه حسن الصحبة، ولطف النصيحة، لا أن يكون الآباء قضاة وجلادين.
وختاما، فإن بناء مجتمع متراحم يبدأ بإحياء رحمة الآباء بالأبناء مع حسن التربية وعدم تكليفهم ما لا يطيقونه، مما يعينهم على البر والصلة.
التعليقات
برجاء ذكر عنوان المقال عند التعليق
ebtihal.coach@gmail.com
© 2024. Coach Ebtihal Aljifri Lifestyle Development Consultancy. License No. CN-5315708. ADCCI No. 8800074026

