man and woman holding hands while walking on beach during daytime

دعوة إلى تجديد العادات وإحياء روح المقاصد في الأعراف

2/14/2013

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه.

كنت في زيارة لإحدى المستشفيات، وجلست أتجاذب الحديث مع دكتورة معالجة فيها، أخبرتني الدكتورة وهي منزعجة عن طفلة صغيرة، دون الثانية عشر من العمر، أحضرتها أمها إلى المستشفى، الأم والبنت كل منهما في حالة صدمة وألم، فالبنت تم الإعتداء عليها وانتهاك عرضها من أحد أقرباء الأسرة الشباب، الذي يتردد على بيتهم باستمرار، المشكلة أن الأم لم تستطع إخبار الأب، وعبثا حاولت الدكتورة إقناع الأم بضرورة الإبلاغ عن الشاب المعتدي، حتى لا يكرر فعلته، وحتى تتعافى البنت من الرعب المسيطر عليها، لكن اعتبارات الأسرة والقبيلة أقوى من قهرها ومن حق ابنتها في الشعور بالأمن، وغادرت الأم المستشفى مع ابنتها، لتتجرع ألم استضافة المعتدي في بيتها يوما بعد يوم…

ليست هذه بحالة فردية شاذة في مجتمعنا، ولا يقتصر الأمر على انتهاك الأطفال، ذكورا وإناثا، وإن كان هذا أحد أبشع صورها، فاعتبارات الأسرة والقبيلة، وخشية الفضيحة، ولحق العار بكل من يلجأ إلى السلطات الرسمية من شرطة أو قضاء أو غيرهما، من أجل إحقاق حق أو إبطال باطل أو طلب الحماية من اعتداء فرد من أفراد الأسرة، أضاع الكثير من الحقوق، وساعد على انتشار الجرائم.

الأصل في التضامن القبلي والأسري، أن الأسرة هي مصدر الأمن، والقبيلة هي التي توفر الحماية ويشد أفرادها أزر بعض، ودأب العرب على تزويج بناتهم من أبناء القبيلة نفسها، لأن ابن عمها في أسوأ الأحوال إن لم يسعد معها ويسعدها، فلن يؤذيها بل سيصونها ويحافظ عليها.

تلك المعاني الجميلة التي بنيت على أساسها عادات كثيرة، ذابت اليوم بل وانقلبت إلى العكس تماما، ولكن لا يزال الناس متمسكين بالعادات التي بنيت عليها، أي أن الأساس قد هُدّ، وبقي الهيكل الخارجي المتآكل قائما لينقض على رؤوس من تحته..

فلم يعد الشاب اليوم يشعر تجاه ابنة عمه بواجب الحماية والاحترام والتقدير، فصار تزويج أهلها له، دونا عن غيره من الشباب، ارخاصا لها، وبدلا من صونها، صارت عنده من المسلمات السهلة التي حصل عليها دون تعب، فانتقص منها، وعاملها أسوأ من الغريب، فما الذي ستفعله هي أو أهلها؟ اعتبارات القبيلة تمنع وضع حد لعبثه بها.

في الكثير من أنحاء وطننا العربي والإسلامي المرأة لا ترث، بل يذهب كل الميراث للأخوة الذكور دون الإناث، ولجوء المرأة إلى القضاء للحصول على حقها من الميراث غير مقبول بتاتا فليس العار على الأخ الذي سرق مال أخته، بل العار على الأخت أن تطالب بحقها، وعليها أن تقنع بفتات الصدقات التي يرسلها أخوها لها متى شاء، إن شاء..

وقس على ذلك سائر حقوق المرأة من نفقة ومتعة وحضانة إلخ، فلجوءها إلى الجهات الرسمية للمطالبة بأي حق من الحقوق هو خروج على القبيلة، وعار وعيب وكيف تسول لها نفسها أن تواجه أي فرد من الأسرة أو القبيلة، لتحصل على حق شرعه لها الشارع والقانون ..

ألا يكفيها أن تقبع في البيت وتسمع كل علماء الدين على الشاشات يهتفون بأن الدين قد صانها وأكرمها وكفل للمرأة كل حقوقها، فكون الحقوق مكفولة لها، ومسطورة في الكتب واللوائح، لا يعني أن تحصل عليها فذاك توجه آخر يتنافى مع العادات والتقاليد ويقود إلى العار والفضيحة وووو…

وكم أتعجب حين أسمع النساء يتحدثن عن فلانة التي طلقها زوجها، وما أشد ما ارتكبته تلك المرأة الحمقاء في حق نفسها وأسرتها، حين استغاثت برجال الشرطة لينقذوها من براثن زوج انقض عليها بالضرب المبرح، فلم يستطع زوجها أبدا أن يغفر لها هذا الجرم، فأدى ذلك إلى طلاقها !!!

أين نحن؟ وأي عصر مقلوب عجيب غريب نعيش فيه؟؟

وليس هذا محصورا علينا هنا في نمط حياتنا داخل وطننا العربي والإسلامي، بل نقوم بتصدير هذه الأفكار معنا إلى الخارج حين نشد رحال الهجرة إلى الدول الأخرى..

أتذكر حين كنت في الولايات المتحدة، إحدى السيدات المسلمات المهاجرات هناك، كانت تحكي لي كيف أن زوجها ضربها وهي حامل حتى نزفت فقام ابن زوجها الذي ترعاه، بنقلها إلى المستشفى، وكيف أنها ظلت تترجاه وتنبه عليه بأن لا يخبر الأطباء حقيقة ما جرى، حتى لا تقبض الشرطة الكافرة على والده!!

وتساءلت في نفسي حينها، ولا زلت أتساءل عن هذا الولد حين صار شابا، ما نظرته إلى دينه في تلك البلد، حين يقوم والده المسلم، والذي كان يعمل في مجال الدعوة إلى الله!!، بجرم يتنافى مع الإنسانية، والكفار هم الذين يرفضون هذا الجرم، وكيف أن واجبه الدينى بحسب ما فهمه من أسرته يحتم عليه أن يحمي والده من الكفار ويتستر على فعلته بالكذب؟؟ٍ!!

هل تحولت العادات والاعتبارات القبلية من وسيلة لحفظ الأمن إلى عامل انتشار الجرائم؟

هناك العديد من القصص التي أعجز عن حصرها، وهناك الكثير من المظالم والجرائم التي تنتشر بيننا، تقع على النساء والأطفال من الجنسين، ما بين تعنيف جسدي أو لفظي، وهتك عرض من قبل المحارم أو الأقرباء، وضياع حقوق مالية ومعنوية، وقهر على الزواج أو استمراريته، وهجر وعبث في الطلاق والمراجعة يترتب عليهم تلاعب بالمصير والأعراض، ومشاكل نفسية أصابت جيلا من الشباب الذين نشئوا في ظل هذه المظالم وشهدوا مثل هذه الجرائم المتستر عليها، جيلا نعول عليهم في بناء المجتمع والنهوض بالأمة، بات لا يثق في مجتمعه ويشكك في مصداقية الأمة التي ينتمي إليها، وأنى له أن يثق في مجتمع لا يأخذ على يد الظالم، ولا ينتصر للمظلوم، بل يحمي الظالم ويتستر عليه، ويمارس كافة الضغوطات على المظلوم ليتنازل عن حقوقه، بل يحاربه إن استنصر بالقانون أو الشرع.

متى صارت عاداتنا وسيلة لنشر الظلم والجريمة؟

متى تحولت تقاليدنا من حماية المظلوم وصون الحقوق وحفظ الأعراض والأموال، والذود عن النساء والأطفال، إلى تقاليد تتستر على الظالم وتحميه، وتضيع الحقوق..

ألم تكن النساء والأطفال في يوم من الأيام من أشد حرمات القبيلة تُبذل أرواح الرجال وترخص الدماء في سبيل صونهم وتوفير الأمان لهم؟

ما بال دماءهم اليوم تسفك وأعراضهم تنتهك وحقوقهم تضيع من قبل رجالهم أو بتمكين رجالهم للعابثين منهم؟؟

ماذا جرى لعاداتنا وتقاليدنا؟؟ هل عدنا إلى الجاهلية مرة أخرى؟؟

تمسكنا بقشور العادات ونسينا المقاصد التي قامت عليها، فأضعنا معانٍ راقية طالما تغنينا بها

أضعنا المروءة والشهامة، حين خذلنا أطفالنا ونساءنا، وتركناهم عرضة للعبث والتلاعب.

أضعنا النخوة والوفاء وتطبعنا بالجبن والغدرحين أدرنا ظهورنا لآلامهم وأصمتنا استغاثاتهم.

أضعنا العدالة وبضياعها فقدنا الكثير ..

هناك لا شك خلل كبير في تطبيق عاداتنا وفي طريقة تمسكنا بأعرافنا وتقاليدنا، خلل أدى إلى فقد الشعور بالأمن والأمان وغياب العدالة بين أفراد الأسرة والقبيلة، ولا عجب أن ينتشر بيننا قطيعة الأرحام وعقوق الأهل، فالفضائل لا تُحفظ بمخالفة الشرع، والعصبية القبلية لن تؤدي إلى صلة الأرحام والبر ما دامت قائمة على الظلم وضياع الحقوق.

نسمع كثيرا عن دعوات لعلماء الشريعة والمتصدرين للخطاب الإسلامي بضرورة تجديد الدين، وإعادة النظر في الأحكام الظنية بما يتناسب مع مقتضيات العصر وحاجات الناس، من خلال حفظ مقاصد الشريعة وتحقيق المناط، حتى لا يترك الناس الدين لعدم مناسبته للعصر.

ماذا عن العادات والتقاليد ألسنا بحاجة إلى إعادة النظر فيها أيضا وإحياء روح المقاصد التي بنيت عليها؟

أم أن قدسية العادات والأعراف أعلى من الدين نفسه فلا نقبل أن يمسها التغيير والتطوير بما يناسب العصر؟

ألسنا بحاجة لاجتماعات لكبار كل أسرة وعقلاء كل قبيلة للنظر في أحوال أفرادها وما آلت إليه ومحاولة للخروج بحلول مبنية على روح المقاصد الحقة التي أقام عليها أسلافنا الأعراف التي ندعي التمسك بها ونحن حقيقة بعدنا كل البعد عن روحها وتمسكنا بنسخ قبيحة عنها؟

مجتمعاتنا بحاجة لاستعادة الشعور بالأمن والأمان وإقامة العدالة وحفظ الحقوق، وهذه كلها لن يكفي فيها كل فتاوي المجمعات الفقهية ولا كل التعديلات على اللوائح القانونية ولا التوقيع على كل المواثيق الدولية، إن لم يكن هناك ثقافة صحية في المجتمع، وشعور بالمسؤولية بين أفراده لإحقاق الحق وإبطال الباطل.

نحن بحاجة لإعادة بناء ثقافة مجتمعاتنا، بحاجة لإعادة غرس المعاني الأصيلة والقيم النبيلة، بحاجة لتصحيح الميزان وتعديل المفاهيم، فالله تعالى قد وضع الميزان وتوعد من طفف في المكيال، وليس ذلك فقط في مكاييل الحب والقمح، بل من باب أولى ميزان الحق والباطل، فويل لمن يحق الباطل ويبطل الحق.

وكفانا تشدقا بأن مجتمعاتنا أفضل من غيرنا، وكفانا وهما بأن النساء عندنا مكرمات، والأطفال مصونون، فلسنا بأفضل من غيرنا وحال نساءنا أسوأ من معظم المجتمعات الأخرى، وأطفالنا يفتقرون لأبسط الحقوق، ونحن نتستر على جرائم داخل البيوت من أجل أن نظهر بمظهر جميل، إلا أن الحق لا بد له من بزوغ، والله تعالى لا يقبل الظلم، وينصر المظلوم ولو بعد حين، وإذا تخاذلنا عن نصرة المظلوم وإحقاق الحق، فالله تعالى سيرسل من خلقه، وإن كانوا كفارا، من يرفع المظالم.

وإلى أن نستيقظ من غفلتنا، ونصحو من أحلامنا، ونهب لتغيير أحوالنا، حتى ذلك الحين نكتفي بدس رؤوسنا في التراب، ونساءنا وأطفالنا يصطفون أمام السفارات الغربية للحصول على فيزا الضحية، ولا عزاء للقبيلة…

التعليقات

برجاء ذكر عنوان المقال عند التعليق