طيب العيش
4/14/2024
محاولة سبر أغوار العلاقات من أكثر القضايا الإجتماعية المتشابكة، وأكثرها حضورًا في أذهان الناس وأطروحاتهم، وتزداد إلحاحًا عند الشباب المقبل على الزواج، ومن هم في منتصف العمر، ومن خرج من علاقة أو يتحسس طريقه في أخرى، ومن يرغب في تفسير أو تبرير لتجربة ماضية أو حالية أو مقبلة.
وتمتلىء أرفف المكتبات ومواقع التواصل بالأطروحات، شرحًا وتنظيرًا وتأطيرًا، ونصحًا وتوجيهًا، يشترك في الطرح علماء نفس وإجتماع ودين وحتى بعض المؤثرين أو أصحاب التجارب المختلفة.
نقرأ ونستمع ونبحث، وكلما ظننا أنا وصلنا إلى فهم أو أوشكنا، لا تلبث المعادلة أن تختل بدخول متغير جديد غاب عن أصل التصور إما لغفلةٍ أو سوء تقدير أو إنكار لواقع أو عدم توقع.
وكل ما سبق هو من ضمن ما يمر بالبشر في جل أمورهم، إلا أن قضية العلاقات الزوجية لها خصوصية عن غيرها من القضايا، لعظم تأثيرها على النفس حتى سماها القرآن سكنـا، ولكونها الأساس الذي تقوم عليه الأسرة والروابط الإجتماعية، ويطيب به العيش عموما.
الكثير مما يطرح مما قام على أبحاث ودراسات وتجارب ونظر وتنظير، معتبر واقعـًا وعقلًا، ويفيد في فهم بعض طبائع البشر، وأساليب التواصل بينهم، ويعين في حل الكثير من الإشكالات، كما أن للعادات والتقاليد إرث هو نتاج تجارب تراكمية معتبرة، إلا أن الإشكال حين يحاول الناس حصر المفاهيم المتعلقة بالعلاقات بموروث ما، ربما كان في السابق وسيلة لتحقيق غاية، فما عادت الوسيلة ناجعة، أو الغاية حاضرة، أو بنظرية محددة أو تصور معين، كأنه ثوب من مقاس واحد يناسب كل أحد وكل وقت، ثم ينصبون أنفسهم قضاة لنقض ما خالف ذلك، وما أشد ظلم ذوي القربى في هذا الباب.
والإشكال الآخر هو اعتقاد أن ذات العلاقة تبقى على وتيرةٍ واحدة لا تتغير ولا تتبدل.
فالطبيعة البشرية تكتنفها متغيرات كثيرة تتجاوب مع المؤثرات بأشكال ودرجات متفاوتة، فينتج عن ذلك احتياجات مختلفة، لها أثر في بلورة مفهوم العلاقة مع الآخر ونمطها ومقاصدها.
وبالتالي فإن طبيعة العلاقات مفهومًا ونمطًا واحتياجًا ومقصدًا وسلوكًا، لا تتفاوت بتفاوت المجتمعات والأفراد فحسب، بل قد تتفاوت في الشخص نفسه تبعا لتعاقب تلك المتغيرات في مراحل مختلفة، أي أن ما يصبو إليه الإنسان في علاقته مع الآخر، قابل للتغير والتطور.
فمن الخطأ تصور أن من يدخل في علاقة جديدة مراده منها هو ذات مراده من السابقة، فعلى سبيل المثال إذا توفي أحد الزوجين، وأقبل الآخر على الزواج، حتى لو كانت العلاقة السابقة ناجحة وحققت المراد منها، فلا يعني ذلك أن المطلوب في العلاقة الجديدة تكرار نمط العلاقة ذاتها، بل قد يقبل في الجديدة ما كان يرفضه في السابقة أو يطلب فيها ما لم يكن، بل حتى من لم يوفق لتحقيق مراده في زيجة سابقة، لا يعني أن ما يطلبه في العلاقة الجديدة هو ما فقده فيما سبق، بل قد تتجدد الاحتياجات ويتغير نمط العلاقة وفقا لما يطرأ على الإنسان من تبدل في أحواله.
أما دوام علاقة مستقرة مطمئنة بين طرفين زمنـًا طويلا، فيتطلب توافق وتكافؤ بين الطرفين في البدايات ثم في النمو والمرونة، نوعًا وسرعة واتجاها،
فلو بقي أحدهما جامدًا على ما كان عليه من بداية العلاقة، لحصل شق وانفصال،
ولو نما الطرفان كلٌّ باتجاه مختلف، لأعقب ذلك نأيـًا وتفرقا،
ولو اختلفت درجة أو سرعة النمو لفات أحدهما الآخر،
وكل ذلك مؤداه نهاية العلاقة، وإن استمر ظاهرها، فحقيقتها قد ولت.
هذا على اعتبار بدء العلاقة بين طرفين على قدمٍ واحدة، أما إذا كان التفاوت منذ البداية، فما أن تنتهي لذة البدايات، إن وجدت، حتى يبدأ قلق واضطراب.
فإن كان التفاوت في الدرجة فلا يتأتى للمسبوق أن يلحق صاحبه إلا إذا كان هو الطرف الأكثر مرونة والأسرع نموًا، فيلحقه أو يدانيه، لا سيما إن وجد من صاحبه عطفًا ومد له من وصله حبلًا يشده إليه ويرفعه به.
أما إذا جمع بين فوات البدء وتقاعس اللحاق، أو كان لديه بعض همة للحاق أضعفها صاحبه بانتقاص أو تعالٍ أو نأي وإعراض، فلا شك أن عاقبة ذلك تفرق وشتات.
وإن كان التفاوت لا يتعلق بسابقٍ ولاحق، وإنما هو تفاوت في مقصود العلاقة وماهيتها، فلا سبيل إلا أن يخرج أحدهما أو كلاهما عن مقصوده، ويجتمعا على مقصد مشترك، أو يتفرقا ويغني الله كلا من سعته، فأنى يقام بناء واحد على أرضيتين مختلفتين!
ومن المقاصد المشتركة ما قد يحقق نوع علاقة تقيم جوانبـًا مهمة في الحياة قد تكفي كلا الطرفين كليًا أو جزئيا، أو تكفي طرفـًا كليًا وتكفي الآخر جزئيًا.
أما إن كان التفاوت أشد عمقـًا وأعظم درجة فلكأن العلاقة لم تقم أصلًا، ولعلها لم تكن حقيقة وإنما وهم متصور، إذ يبعد أن يتحقق سكن مع بعد أو تنافر.
وأنبه هنا على أن الكلام أعلاه عن التفاوت في نوع العلاقة ومقصدها ونموها والنضج فيها، ولا يتعلق ضرورة بالتحصيل العلمي الأكاديمي أو درجة الوظيفة، ما لم يكن لذلك تعلق بذات العلاقة نفسها.
فلو افترضنا أن أحد الطرفين مقصده من الزواج علاقة متكاملة بكل ما تحويه من تأسيس أسرة ومشاركة في كل جوانب الحياة، بينما يصبو الآخر إلى رفيق وأنيس ولا يلتفت إلى بناء أسرة، فالأول يريد الدخول في بناء فيه عناء ويحتاج مشاركة في جوانب شتى، وإلا تحمل العناء وحده، بينما الآخر يريد واحة يرتاح فيها من عناء ماض أو حاضر، وإلا أضاف إلى نفسه مشقة ليس لديه الإستعداد لتحملها، ومسؤوليات غير قادر على تكلفها، فما لم يكن كل منهما واعيـًا بحاله، مدركًا مقاصد نفسه واحتياجاتها، صادقًـا واضحًا مع صاحبه وواعيًا بمقاصده مقدرًا لاحتياجاته، فقد حمل نفسه والآخر ما لا يطيقان، إذ أن الحياة ستكون كلها شد وجذب باتجاهين مختلفين، أحدهما يطالب صاحبه بتحمل مسؤولية واجبات أهملها، وحقوق أضر بها، والآخر يتهم صاحبه بالأذى وتحميله ما لا يطيق، وإقحامه فيما لا يحتمل، ولا يقال إن أحدهما محق في مقصده أو مخطىء، لموافقة المقصد الصورة النمطية للعلاقة أو مخالفتها، فما دام المقصد في ذاته لا يخالف فطرة ولا شرعا، فلا يحكم عليه بالباطل، وليس بينهما مفاضلة فيما أعلم، بل إن الأمور تقدر بمقاديرها، والمقادير هنا متغايرة بتغاير الطبائع البشرية والمؤثرات الواردة عليها كما سبقت الإشارة، لكن حقيقة الإشكال هو في الغفلة عن وضوح الرؤية من البداية، سواء كان ذلك عمدًا، أي أن يخفي أحدهما عن صاحبه حقيقة مراده، ففيه غش وضرر متعمد، أو غفلة أو عدم وعي لحاجة النفس وحاجة الآخر، ولو وعى كل منهما بما هو مقبل عليه، لكُفيا كل عناء من البداية.
ومثال التفاوت بالنمو بعد تساو البدء، أن يدخل الطرفان في العلاقة الزوجية بنفس المقصد، كأن يتفق الطرفان على مقصد تأسيس الأسرة وإنجاب الأطفال، ثم بعد أن يكبر الأطفال وتخف أعباء الأسرة، يميل أحدهما إلى الإنتقال بالعلاقة لمرحلة جديدة تناسب تقدم العمر وتغير الحال والاحتياج، بينما يبقى الآخير أسير ذات المرحلة ويرفض الخروج من حلقة تكوين الأسرة وتربية الأطفال، أو العكس، يدخلان معًا في علاقة مبنية على مقصد الرفقة وحدها بلا أطفال، ثم بتقدم العمر وتطور القدرة على تحمل المسؤولية، ويظهر الاحتياج لتكوين الأسرة والإنجاب، فيصبو إلى هذا التغيير أحدهما دون الآخر، وفي كلا الحالتين يحصل تفاوت يؤدي إلى تنازع ثم فراق بصورة أو أخرى.
وما سبق من أمثلة، إنما صورت التفاوت في مقصدين فقط عند الدخول في العلاقة وفي منتصفها، قصد بها التوضيح لا التفصيل والتحديد، فإن الصور والمقاصد تتعدد بتعدد البشر وما يطرأ عليهم، وليس لذلك حصر.
والعاقل المقبل على أي مشروع يقوم بدراسة وافية للمشروع، من حاجة وإمكانيات، ومتطلبات، ويدع مساحة في الدراسة لأية متغيرات غير متوقعة، كذلك المقبل على علاقة يلزمه أن يتعقل أولا بأن يعرف نفسه، وأن يعي احتياجاته وإمكانياته، وأن يتحقق من وجهته، إذ أنها بوصلة تطوره ونموه، ويترك مساحة مرنة في نفسه للتغيرات الغير متوقعة، ولا أقول أن الوعي المنشود وحده كافيا لضمان زواج متكامل، وتحقيق علاقة مستقرة، بل هو خطوة أولية لازمة، ووسيلة بديهية للتبصر والتعقل قبل التوكل، واستشراف لا غنى عنه لتلافي ما يمكن تلافيه من تعقيدات وإشكالات، من باب التسديد والمقاربة.
أما السعي في الزواج قبل الوعي، فهو ظلم للنفس وظلم للآخر، ولا يصلح أن يكون الزواج مجرد انسياق جمعي إمعي، مجرد من الفهم وحس المسؤولية.
وخلاصة الأمر أن محاولة فهم ماهية العلاقات وإدراك ديناميكياتها وتحديدها من خلال تأطيرها في قوالب جامدة وتقييدها بقواعد ثابتة، إنما هو ضرب من تحجير الواسع وتحويل النسبي إلى مطلق، فليس إلى ذلك من سبيل، وكل ما قيل ويقال في ذلك في أحسن أحواله يصف بعض البعض، أي بعض جوانب من بعضها، ولا يحيط بكلها وقلما كل بعضها، أي حتى ما يحسن وصفه لا يدرك كل جوانبه،فما أحوج المجتمع لمساحة من التسامح وتقبل الإختلاف وتيسير المشقات، فغاية ما علينا تقعيده والتقيد به، هو المبادىء الشرعية والأخلاقية التي تحفظ من العبث والتعدي، وما قد ينتج عن ذلك من أذى أو خلل عام أو خاص، فلا ضرر ولا ضرار، ولا يفضي العنت والتشدد إلا إلى فتنة في الأرض وفساد.
التعليقات
برجاء ذكر عنوان المقال عند التعليق
ebtihal.coach@gmail.com
© 2024. Coach Ebtihal Aljifri Lifestyle Development Consultancy. License No. CN-5315708. ADCCI No. 8800074026

